الكلامُ يجرُّ الكلام
9
· ما قيل عن حقيقة الهوی ·
ان حقيقة الهوی هو الدليل الی الباطل ، وهو خلق النفس وسجيتها ، فجميع ما تميل اليه النفس من الاباطيل فهو الهوی ، واذا نظرت في الاشياء .ميزتها وجدت الهوی أصل كل فتنة وبلية علی اختلاف أحواله ، وتنوع أطواره لانه مصدر الاباطيل ، ومنشأ الاضاليل ، وله حالة شبيهة بالسكر تعتري الانسان فتمنعه من التمييز لما قد غلب علی عقله من نشوة الهوی ، فجانب الهوی ونزه فؤادك عنه فانه يشينك[1] في دينك ومرؤتك كما قيل :
اذا تابعت الهوی قادك الهوی * الی كل ما فيه عليك مقال
ولابن الخيمي :
يا طالبا ً للعز هاك نصيحتي * لفظا ً علی المعنی البديع وجيزا
ما الذل الا في مطاوعة الهوی * واذا عصيت هواك كنت عزيزا
وقال عبدالله بن المقفع : اذا عرض لك ابداء أمرين لم تدر أيهما أصوب فانظر أيهما أقرب الی هواك فخالفه ، فان اكثر الصواب في مخالفة الهوی كما قيل :
اذا حار وهمك في معنيين * وأعياك غي الهوی والصواب
فخالف هواك فان الهوی * يقود النفوس الی ما يعاب
وقال الآخر :
اذا ما دعتك النفس يوما ً بشهوة * وكان عليها للخلاف طريق
فخالف هواها ما استطعت فانما * هواك عدو والخلاف صديق
· ما قيل في النهي عن اتباع الهوی ·
وروي عن الامام أمير المؤمنين علي (ع) أنه قال : اذا أراد الله بعبد خيرا ً حال بينه وبين شهوته ، وحجز بينه وبين قلبه ، واذا أراد به شرا ً وكله الی نفسه .
وفي نهج البلاغة : من عشق شيئا ً أعشی بصره ، وأمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحه ، و يسمع بأذن غير سميعة ، قد خرقت الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه ، فهو عبد لها ولمن في يديه شئ منها ، حيثما زالت زال اليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها ، لا ينزجر الی الله بزاجر ، ولا يتعظ منه بواعظ .
وقال بعض الحكماء : اذا انقادت النفس للعقل بما قد أشعرت من عواقب الهوی لم يلبث الهوی أن يصير بالعقل مدحورا ً ، وبالنفس مقهورا ً .
وقال أحد الشعراء :
اذا المرء أعطی نفسه كل ما اشتهت * ولم ينهها تاقت الی كل باطل
وساقت اليه الاثم والعار بالذي * دعته اليه من حلاوة عاجل
· تعريف وجيز عن القلب ·
قال الغزالي في كتاب الاحياء : ان القلب مثل قبة لها أبواب تنصب اليها الاحوال من كل باب ، ومثل هدف ترمی اليها السهام من كل جانب ، ومثل مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة ، فتتراءی فيها صورة بعد صورة ، ومثل حوض تنصب اليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة اليه .
واعلم ان مداخل هذه الآثار المتحدة علی القلب ساعة بعد ساعة ، أما من الظاهر فالحواس الخمس ، واما من الباطن ، فالخيال ، والشهوة ، والغضب ، والاخلاق المركبة من مزاج الانسان ، فانه اذا أدرك بالحواس شيئا ً حصل منه أثر في القلب ، وكذا اذا هاجت الشهوة أو الغضب حصل من تلك الاحوال آثار في القلب ، وأما اذا كف الانسان عن الادراكات الظاهرة فالخيالات الحاصلة في النفس تبقی ، وينتقل الخيال من شئ الی شئ ، ويحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال الی حال ، فالقلب دائما ً في التغيير والتأثر من هذه الاسباب ، وأخص الاثار الحاصلة في القلب هي الخواطر ، وأعني بالخواطر ما يعرض فيه من الافكار والادراك ، وأعني بها ادراكات وعلوما ً اما علی سبيل التجدد ، واما علی سبيل التذكر، وانها تسمی خواطر من حيث انها تخطر بالخيال بعد ان كان القلب غافلا عنها ، فالخواطر هي المحركات للارادات ، والارادات محركة للاعضاء ، ثم هذه الخواطر المحركة لهذه الارادات تنقسم الی ما يدعو الی الشر أعني الی ما يضره في العاقبة ، والی ما يدعو الی الخير ، أعني الی ما ينفع في العاقبة ، فهما خاطران مختلفان ، فافتقرا الی اسمين مختلفين فالخاطر المحمود يسمی الهاما ً ، والخاطر المذموم ، أعني الداعي الی الشر يسمی وسواسا ً ، ثم انك تعلم ان هذه الخواطر أحوال حادثة فلابد لها من سبب والتسلسل محال ، فلابد من انتهاء الكل الی واجب الوجود .
· تعريف وجيز عن معنی القلب والنفس والروح والعقل ·
وكثيرا ً ما يقع الاشتباه بينها .
الاول لفظ القلب : حكی الشيخ الاجل الفقيه الاعظم زين الملة والدين الشهيد الثاني (روح الله روحه) انه يطلق لمعنيين :
(أحدهما) اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الايسر من الصدر وهو لحم مخصوص وفي باطنه تجويف وفي ذلك التجويف دم أسود وهو منبع الروح ومعدنه ، وهذا لا يتعلق به غرض أطباء الاديان ، وانما يتعلق بالبحث عنه أطباء الابدان ، وهو موجود في الحيوانات لانه من عالم الخلق لا من عالم الامر .
و(ثانيهما ) لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق وتلك اللطيفة هي حقيقة الانسان وهي التي يقع بها الادراك والمعرفة ، وأما علاقتها مع هذا القلب الجسماني ، فقيل انه من باب تعلق الاعراض بالاجسام والاوصاف بالموصوفات ، وقيل : يضاهي تعلق الاله ، وقيل فيه غير هذا مما يتعلق بعلوم المكاشفة ، والغرض هنا علوم المعاملة .
الثاني لفظ الروح : والغرض يتعلق باطلاقه لمعنيين :
(أحدهما) جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني وينتشر بواسطة العروق الصوارب[2] الی سائر أجزاء البدن والفيضان وأنوار الحياة والحس منها علی الاعضاء يضاهي فيضان النور من السراج الذي يداريه في زوايا البيت ، فانه لا ينتهي الی جزء من البيت الا يستنير به ، فالحياة مثالها النور الحاصل في الحيطان ، والروح مثالها السراج وسريان الروح وحركتها في الباطن مثال حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه ، والاطباء اذا أطلقوا اسم الروح أرادوا به هذا المعنی ، وهو بخار لطيف أنضجه حرارة القلب وهذا المعنی يتعلق به غرض الاطباء ويبحثون عنها .
و (ثانيها) هو اللطيفة العالمه المدركه وهو المعنی الثاني للقلب ، قيل وهو المراد من قوله تعالی :
« قل الروح من أمر ربي » وفد عجز الناس عن ادراك كنه حقيقته .
الثالث لفظ النفس : والغرض يتعلق بمعنيين من معانيه :
(أحدهما) المعنیالجامع لقوة الغضب والشهوة في الانسان وهو المراد من قولهم لابد من مجاهدة النفس وكسرها ، ومن قوله صلی الله عليه وآله وسلم : « أعدی عدوك نفسك التي بين جنبيك » .
و(ثانيها) اللطيفة التي ذكرناها التي هي الانسان بالحقيقة وهي نفس الانسان وذاته ، ولكنه توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها من اللوامة والمطمئنة والراضية والامارة .
الرابع العقل : وله معنيان يتعلق بهما الغرض :
(أحدهما) العلم بحقائق الامور .
و(ثانيهما) المدرك للعلوم ، فيكون هو القلب أعني تلك اللطيفة السابقة .
· حقيقة الروح وماهيتها ·
من تصفح الكتب وسبر الاسفار[3] بدقة وامعان يبدو له جليا ً ان حقيقة الروح وماهيتها من الامور التي تضاربت في تعريفها أقاويل العلماء ، وتناقضت في تحقيقها آراء المتفلسفين ، فمنهم من رقی به الی الاوج وعـّرفه بأنه جزء من واجب الوجود ، ومنهم من أنزله الی الحضيض .
وقال بعض العلماء : ان الروح جسم رقيق هوائي متردد في مخارق الحيوان وهو مذهب أكثر المتكلمين ، واختاره الشريف المرتضی علم الهدی (روّح الله روحه) .
وقيل : هو جسم هوائي علی بنية حيوانية في كل جزء منه حياة .
عن علي بن عيسی ، قال : فلكل حيوان روح وبدن ، الا ان منهم من الاغلب عليه الروح ومنهم من الاغلب عليه البدن .
وقيل : ان الروح عرض[4] ، ثم اختلف فيه (فقيل) هو الحياة التي يتهيأ لها المحل بوجود العلم والقدرة والاختيار وهو مذهب الشيخ المفيد (أنار الله برهانه) ، والبلخي وجماعة من المعتزلة البغداديين ، (وقيل) هو معنی في القلب ، عن الاسواري ، (وقيل) ان الروح الانساني وهو الحي المكلف ، عن ابن الاخشيد والنظام .
نری ان هذا الاختلاف العظيم الواقع في البين ينبئ بوضوح عن عدم الوصول الی حقيقة الروح وكنهه ، وهو دليل بيّن علی ان تحقق أمر الروح ليس بالهين ، بل عسير أو كتعذر قد استأثرت بعلمه من خلقه وأبدعه وأوجده وأودعه في هذا المحسوس الملموس هذا والذي تدل عليه ظواهر الايات والاخبار الصادرة عن الحجج الطاهرة أئمة أهل البيت عليهم السلام ةو ان الروح شئ مغاير للبدن ، حال فيه حلول المعنی في اللفظ كما عن الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام أو نافذه فيه نفوذ النار في الفحم والدهن في السمسم وهو باق في البدن الی أجل محدود ، ثم يفارقه عند الموت وهو باق بعئ الموت ما شاء الله .
· الارواح علی أقسام ·
قيل ان الارواح خمسة للمقربين :
1. روح القدس : وبه علموا جميع الاشياء .
2. روح الايمان : وبه عبدوا الله تعالی .
3. روح القوة : وبه جاهدوا الاعداء ، وعالجوا معايشهم .
4. روح الشهوة : وبه أصابوا لذة الطعام والنكاح .
5. روح البدن : وبه دبـّوا ودرجوا .
وأربعة لاصحاب اليمين بفقد روح القدس فيهم .
وثلاثة لاصحاب الشمال والدواب بفقد روح الايمان فيهم . ويحتمل أن يكون المراد الارواح الثلاثة المتعلقة بالاعضاء الثلاثة الرئيسة ، وهي :
الروح الحيوانية : التي تقوم بها القوة الحيوانية المنبعثة من القلب .
والروح النفسانية : التي تقوم بها القوة النفسانية المدركة والمحركه المنبعثه من الدماغ .
والروح الطبيعية : التي تقوم بها القوة الطبيعية من التغذية والتنمية المنبعثة من الكبد واضافتها الی الحياة لان النفس المجردة الانسانية التي الحياة عبارة عن تعلقها بالبدن تتعلق بهذه الارواح بأسرها ، فتتعلق أولا بالروح الحيوانية ، ثم بتوسطها تتعلق بالاخيرتين علی ما هو الصحيح عند جمهور الحكماء .
واما جمع الـرَوح بالفتح وهو نسيم الريح فان العروق النابضة الضوارب التي منبتها القلب وتسمی الشرايين لها حركتان ، انقباضية وانبساطية ، شأنها أن تنقيض البخار الدخاني عن القلب بحركتها الانقباضية وتجذب بحركتها الانبساطية نسيما ً طيبا ً صافيا ً يستريح به القلب[5] ، وتستمد الحرارة الغريزية ، وبهذه الحركه تنتشر الروح والقوة الحيوانية والحرارة الغريزية في جميع البدن ، فهذا النسيم الذي يستريح به القلب هو روح الحياة ، فلو انقطع عن القلب ساعة لانقطعت الحياة ، فتبارك الله أحسن الخالقين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق