الكلامُ يجرُّ الكلام
10
· تعريف الادب وأقسامه ·
قال أبو الفرج الاصفهاني : الادب قسمان (1) أدب النفس ، (2) أدب الدرس .
أما أدب النفس : فهو عبارة عن مكارم الأخلاق ومحامد الاوصاف من العفة والصدق ، والوفاء ، والامانة ، والسخاء ، والعدل ، والحياء ، الی غير ذلك من مرضيات الخصال .
وأما أدب الدرس : فهو عبارة عن :
أولا ً : معرفة اللغة وقوانينها ً .
ثانيا ً : ما يقع فيها من التصريف والنحو .
ثالثا ً : ما يلزمها من الامثال والشعر .
رابعا ً : ما يلزم من الشعر وأقسام الشعر وما يلزم الامثال من تواريخ العرب .
خامسا ً : معرفة حقيقة المسألة .
· مقتطفات عما قيل في الادب ·
ليعلم كل عاقل ، وليتنبه كل غافل ممن يحب أن يقف علی حقيقة الادب ، وأن يسلك سبيله القويم المستحب ان النفس تميل دائما ً الی الهمة العالية التي هي من أعظم أوصاف الخليقة البشرية ، والفطرة الانسانية ولذلك ندب الشارع اليها وحث الرسول الاعظم صلی الله عليه وآله وسلم في كثير من الاحاديث عليها ، وقد حرم كثير من الناس هذه المزية العظيمة التي لم يوجد لمثلها عند أهل الادب قيمة ، وما كان هذا الامن سوء الادب ، وضيق العقل وعدم التدبر في العواقب ولا ينال التدبر حقيقة الا من انتخب للفضل ، فالادب أحسن شئ يقتنی ، وأجل ثمار تجتنی ، فطوبی للمتأدب ، فاذا أدبه يحمله علی الابعاد عن المآثم ، ولا يوقعه في المحارم ، فحينئذ لا يقال انه لنفسه ظالم .
قال الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام :
الادب حلی في الغنی ، كنز عند الحاجة ، عون علی المروءة ، صاحب في المجلس ، مؤنس في الوحدة ، تعمر به القلوب الواهية ، وتحيا به الالباب الميتة ، وتنقذ به الابصار الكليلة ، ويدرك به الطالبون ما يجادلون .
وأوصی بعض الحكماء بنيه ، فقال :
الادب أكرم الجواهر طبيعة وأنفسها قيمة ، يرفع الاحساب الوضيعة ، ويفيد الرغائب الجميلة ، ويعز بلا عشيرة ، ويكثر الانصار لغير ذرية ، فالبسوه حلة وتزينوه حلية يؤنسكم في الوحشة ، ويجمع لكم القلوب المختلفة .
وقال أعرابي لابنه : يا بني الادب دعامة أيد الله بها الالباب ، وحلية زيـّن الله بها عواطل الاحساب ، والعاقل لا يستغني – وان صحت غريزته – عن الادب المخرج زهرته ، كما لا تستغنی الارض – وان عذبت تربتها – عن الماء المخرج ثمرتها .
وقال ابن المقفع : اذا أكرمك الناس بالمال أو السلطان فلا يعجبك ذلك ، فان الكرامة تزول بزوالهما ، ليعجبك اذا أكرموك لدين أو أدب .
وقال بوذرجمهر : ما ورثت الاباء الابناء خيرا ً من الادب ، لانهم به يكسبون المال وبالجهل يتلفونه .
وقال أيضا ً : حسن الخلق خير قرين ، والادب خير ميراث والتقوی خير زاد .
وقال أيضا ً : ليت شعري أي شئ أدرك من فاته الادب ، وأي شئ فات من أدرك الادب .
وقال خالد بن صفوان لابنه : يا بني الادب بهاء الملوك ورياش[1] السوقة والناس بين هاتين ، فتعلمه تجده حيث تحب .
ويقال : من قعد به حسبه ، نهض به أدبه .
وقال ابن المعتز : رحلة الادب لا تخفی ، وحرمته لا تجفی ، والادب صورة العقل ، فحسـّن عقلك كيف شئت .
وحكي ان أبا العالية دخل علی ابن عباس فأقعده معه علی السرير وأقعد رجالا من قريش تحته ، فرأی سوء نظرهم اليه وجهومة[2] وجوههم ، فقال مالكم تنظرون الي نظر الشحيح[3] الی الغريم المفلس ، هكذا الادب يشرف الصغير علی الكبير ، ويرفع المملوك الی المولی ، ويقعد العبيد علی الاسرة .
· شعر في الادب ·
لكل شئ زينة في الوری * وزينة المرء تمام الادب
قد يشرف المرء بآدابه * فينا وان كان وضيع النسب
· رقة الادب في الظاهر ·
قيل لابي وائل : أيكما أكبر أنت أم الربيع بن خثيم ؟ قال : أنا أكبر منه سنا ً ، وهو أكبر مني عقلا ً .
قال رجاء بن حياة لعبد العزيز : ما رأيت أكرم أدبا ً ولا أكرم عشيرة من أبيك ، سمرت عنده ليلة فبينا نحن كذلك اذ عشی[4] المصباح ونام الغلام ، فقلت : يا أمير قد عشی المصباح ونام الغلام ، فلو أذنت لي أصلحته ، فقال : انه ليس من مروءة الرجل أن يستخدم ضيفه ، ثم حط رداءه عن منكبيه ، وقام الی الدبة ، فصب ّ من الزيت في المصباح وأشخص الفتيلة ، ثم رجع فلم يقم أحد .
· الادب في المجالسة ·
قال ابراهيم النخعي : اذا دخل أحدكم بيتا ً فليجلس حيث أجلسه أهله .
قال سعيد بن العاص : ما مددت رجلي قط بين يدي جليس ، ولا قمت حتی يقوم .
وقال أيضا ً : لجليسي علی ثلاث :
1. اذا دنا رحبت به .
2. واذا جلس وسعت له .
3. واذا حدث أقبلت عليه .
قال ابن المعتز : لا تسرع الی أرفع في موضع المجلس فالموضع الذي تحط اليه خير من الموضع الذي تحط منه .
قال محمد بن عبدالله : بعثني أبي الی المعتمد في شئ فقال لي : اجلس فاستعظمت ذلك ، فأعاد ، فاعتذرت بأن ذلك لا يجوز ، فقال : يا محمد ان ترك أدبك في القبول مني خير من أدبك في خلافي .
حكي ان رجلا من أهل الشام دخل علی بعض الملوك فاستحسن لفظه وأدبه ، فقال له : سل حاجتك فليس في كل وقت يمكن أن يؤمر لك بذلك ، فقال : ولم ؟ فوالله ما أخاف بخلك ، ولا استقصر أجلك ، ولا أغتنم مالك ، وان عطاءك لزين ، وما بامرئ بذل وجهه اليك نقص ولا شئ ، فأعجب الملك كلامه وأثنی عليه في أدبه ووصله .
قال الثعالبي :
عليك باقلال الزيارة انها * اذا كثرت كانت الی الهجر مسلكا
فاني رأيت الغيث يسأم دائما ً * ويسأل بالايدي اذا هو أمسكا
· الادب في المماشاة ·
قال يحيی بن أكثم : ماشيت المأمون يوما ً من الايام في بستان مؤنسة بنت المهدي ، فكنت من الجانب الذي يستره من الشمس ، فلما انتهی الی آخره وأراد الرجوع أردت أن أدور الی الجانب الذي يستره من الشمس ، فقال : لا تفعل ولكن كن بحالك حتی استرك كما سترتني ، فقلت : لو قدرت أن أقيك حر النار لفعلت فكيف الشمس ، فقال : ليس هذا من كرم الصحبة ومشی ساترا ً لي من الشمس كما سترته .
· الادب في الاكل ·
قال علماء الاخلاق : اذا حضر الطعام فلا ينبغي لاحد أن يبتدئ في الاكل ومعه من يستحق التقدم عليه لكبر سن أو زيادة فضل ، الا أن يكون هو المتبوع المقتدی به ، فحينئذ ينبغي أن لا يطـوّل عليهم الانتظار اذا اجتمعوا للاكل . وينبغي ان لا يسكت علی الطعام ، ولكن يتكلم عليه بالمعروف وبالحديث عن الصالحين وأهل الادب في الاطعمة .
قال بعض الادباء : أحسن الآكلين من لا يحوج صاحبه الی تفقده في الاكل وينبغي لمن قدم له أخوه الطست أن يقبله ولا يرده .
وجاء في أحاديث أهل البيت عليهم السلام : اذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله في أول أكله وآخره ، وعلی من يأكل أن يلحق بالاداب والرسوم المستحسنة ، منها أن ياكل بيمينه ويشرب بيمينه ، وألا يأكل ويشرب قائما ً .
وأوصی بعضهم ابنه فقال : اذا أكلت فضم شفتيك ، ولا تلتفتن يمينا ً ولا شمالا ً ، وتلقمن بسكين ، ولا تجلس فوق من هو أشرف منك وأرفع منزلا ً ، ولا تبصق في الاماكن النظيفة ، ومن حسن الادب أن يعرض عن البطنة .
قال ابن المقفع : كانت ملوك الاعاجم اذا رأت الرجل نهما ً شرها ً أخرجوه من طبقة الجد الی باب الهزل ومن باب التعظيم الی باب الاحتقار .
· أدب المضيف ·
هو أن يخدم أضيافه ويظهر لهم الغنی وبسط الوجه ، فقد قيل : البشاشة في الوجه خير من القری[5] ، قالوا : فكيف بمن يأتي بها وهو ضاحك ، وقد ضمـّن شمس الدين البدوي هذا الكلام بأبيات وهي :
اذا المرء وافی منزلا منك قاصدا ً * قراك وأرمته لديك المسالك
فكن باسما ً في وجهه متهللا * وقل مرحبا ً أهلا ويوم مبارك
وقدم له ما تستطيع من القری * عجولا ولا تبخل بما هو هالك
فقد قيل بيت سالف متقدم * تداوله زيد وعمرو ومالك
بشاشة وجه المرء خير من القری * فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك
ولله در دعبل الخزاعي حيث قال :
الله يعلم انه ما سرني * شئ كطارقة الضيوف النزل
مازلت بالترحيب حتی خلتني * ضيفا ً له والضيف رب المنزل
وما أحسن ما قال سيف الدولة بن حمدان :
منزلنا رحب لمن زاره * نحن سواء فيه والطارق
وكل ما فيه حلال له * الا الذي حرمه الخالق
وقال عاصم بن وائل :
وانا لنقری الضيف قبل نزوله * ونشبعه بالبشر من وجه ضاحك
وقال بعضهم :
أضاحك ضيفي قبل انزال رحله * ويخصب رحلي والمحل جديب
وما الخصب للاضياف ان تكثر القری * ولكنما وجه الكريم خصيب
ومن أداب المضيف أن يحدث أضيافه بما تميل اليه نفوسهم ، ولا ينام قبلهم ، ولا يشكو الزمان بحضورهم ، ويبش[6] عند قدومهم ، ويتألم عند وداعهم ، وأن لا يحدث بما يروعهم به . ويجب علی المضيف أن يراعي خواطر أضيافه كيفما أمكن ، ولا يغضب علی أحد بحضورهم ، ولا ينغص عيشهم بما يكرهونه ولا يعبس بوجهه ولا يظهر نكدا ً ، ولا ينهر أحدا ً ولا يشتمه بحضورهم بل يدخل علی قلوبهم السرور بكل ما أمكن ، وعليه أن يسهر مع أضيافه ، ويؤانسهم بلذيذ المحادثة وغريب الحكايات ، وأن يستميل قلوبهم بالبذل لهم من غرائب الطرف ان كان من أهل ذلك ، وعلی المضيف اذا قدم الطعام الی أضيافه أن لا ينتظر من يحضر من عشيرته ، فقد قيل : ثلاثة تضني :
1. سراج لا يظئ .
2. ورسول بطئ .
3. ومائدة ينتظر لها من يجئ .
ومن السنة أن يشيع المضيف الضيف الر باب الدار .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق