الاثنين، 23 أغسطس 2010

الكلامُ يجرُّ الكلام

12

· أوصاف بليغة في البلاغات ·

· علی ألسنة قوم من أهل الصناعات ·

اجتمع قوم من أهل البلاغات ، فوصفوا بلاغاتهم من طريق صناعاتهم .

فقال الجوهري : أحسن الكلام نظاما ً ما ثقبته يد الفكرة ، ونظمته الفطنة ، ونضد جوهر معانيه في سموط[1] ألفاظه ، فاحتملته نحور الرواة .

وقال العطار : أطيب الكلام ما عجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه ، ففاح نسيم نشقه[2] ، وسطعت رائحة عبقه ، فتعلقت به الرواة ، وتعطرت به السراة .

وقال الصائغ : خير الكلام ما أحميته بكور الفكرة ، وسكبته بمشاعل النظرة ، وخلصته من خبث الاطناب[3] ، فبز بروز الابريز في معنی وجيز .

وقال الصيرفي : خير الكلام ما نقدته يد البصيرة ، واجتلته وحلته عين الروية ، ووزنته بمعيار الفصاحة ، فلا نظر يزيفه ، ولا سماع يبهرجه .

وقال الحداد : خير الكلام ما نصبت عليه منفخة الروية ، وأشعلت فيه نار البصيرة ، ثم دخرجته من فحم الافحام ، ورققته بفطيس[4] الافهام .

وقال النجار : خير الكلام ما أحكمت نجر معناه بقدوم التقدير ، ونشرته بمنشار التدبير ، فصار بابا ً لبيت البيان ، وعارضة لسقف اللسان .

وقال النجاد[5] : أحسن الكلام ما لطفت رفارف ألفاظه ، وحسنت مطارح معانية ، فتنزهت عي زرابي[6] محاسنه عيون الناظرين ، وأصاخت لنمارق[7] بهجته آذان السامعين .

وقال الماتح[8] : أبين الكلام ما علقت وذم ألفاظه بكرب معانيه ، ثم أرسلته بقليب[9] الفطن ، فمتحت[10] به سعاء يكشف الشبهات ، واستنبطت به معنی يروی من ضمأ المشكلات .

وقال الخياط : البلاغة قميص فجربانه[11] البيان ، وجيبه المعرفة ، وكماه الوجازة[12] ، ودخاريصه[13] الافهام ، ودروزه الحلاوة ، ولابسه جسد اللفظ ، وروحه المعنی .

وقال الصبـّاغ : أحسن الكلام مالم تنصل بهجة ايجازه ، ولم تكشف صبغة اعجازه ، وقد صقلته يد الروية من كمود الاشكال ، فراع كواعب الاداب وألف عذاری الالباب .

وقال البزاز : أحسن الكلام ما صدق رقم ألفاظه ، وحسن نشر معانيه ، فلم يستعجم عنك نشر ، ولم يستبهم عليك طي .

وقال الحائك : أحسن الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدی معانيه ، فخرج مفوفا منيرا ً ، وموشی محبـّرا .

وقال الرائض[14] : خير الكلام مالم يخرج عن حد التخليع الی منزلة التقريب الا بعد الرياضة ، وكان كالمهر الذي أطمع أول رياضته ، في مقام ثقافته .

وقال الجمّال : البليغ من أخذ بخطام[15] كلامه فأناخه في مبرك المعنی ، ثم جعل له عقالا ، والايجاز له مجالا ، لم يند عن الاذهان ، ولم يشذ عن الاذان .

وقال المخنث : خير الكلام ما تكسرت أطرافه ، وتثنت[16] أعطافه ، وكان لفظه حلة ، ومعناه حلبة

وقال الخمـّار : أبلغ الكلام ما طبخته من أجل العلم ، وصفاه راووق[17] الفهم وضمته دنان الحكمة ، فتمشت في المفاصل عذوبته ، وفي الافكار رقته ، وفي العقول حدته .

وقال الفقاعي[18] : خير الكلام ما روحت الفاظه غباوة الشك ، ورفعت رقته فظاظة الجهل ، فطاب حساء فطنته ، وعذب مص جرعه .

وقال الطبيب : خير الكلام ما اذا باشر بيانه سقم الشبهة استطلقت طبيعة الغباوة ، فشفی من سوء الفهم ، وأورث صحة التوهم .

وقال الكحال : كما أن الرمد قذی الابصار ، فالشبهة قذی البصائر ، فاكحل عين المكنة بميل البلاغة ، واجل رمص[19] الغفلة بمرور اليقظة .

ثم قال : اجمعوا كلهم علی أن أبلغ الكلام ما اذا أشرقت شمسه ، انكشف لبسه ، واذا صدقت أنواؤه ، اخضرت أحماؤه .

· طريفة أنيقة ما بين الاصمعي وأحد الاعراب ·

· من الأجوبة المسكتة ·

حكي أن أعرابيا ً وقف في طائفة من أهل الادب والفضل ، وكان الاصمعي واحدا ً منهم ، فقال : أفيكم الاصمعي الشاعر ، قال الاصمعي : أنا ذاك ، فاستاذن عليهم وجلس وقال : يا اصمعي أنت الذي يزعم هؤلاء النفر انك أثقبهم معرفة بالشعر والعربية وحكايات الاعراب ، فقال الاصمعي : ولكن بينهم من هو أعلم مني ومن دوني . قال الاعرابي : أفلا تنشدونني من شعر أهل الحضر ، فأنشده الاصمعي شعرا ً لرجل امتدح به مسلمة بن عبد الملك :

أمسلم أنت البحر ان جاء وارد * وليث اذا ما الحرب طار عقابها

وأنت كسيف الهندواني ان غدت * حوادث من حرب يعب عبابها

وما خلقت أكرومة في امرئ له * ولا غاية الا اليك مآبها

كأنك ديان عليها موكل * بها وعلی كفيك يجري حسابها

اليك رحلنا العيس اذ لك نجدلها * أخا ثقة يرجی لديه ثوابها

عند ذلك تبسم الاعرابي وهز رأسه وقال :

يا أصمعي هذا شعر مهلل خلق النسيج خطؤه أكثر من صوابه يغطي عيوبه حسن الروي ورواية المنشد ، يشبهون الملك والاسد أبخر شئيم المنظر وربما طاردته فطردته شرذمه من امائنا وتلاعب به صبياننا ، ويشبهونه بالبحر والبحر صعب علی من ركبه مـُرّ علی من شربه ، ويشبهونه بالسيف والسيف ربما خان في الحقيقة ونبا عند الضريبة ، وأين هذا مما قال صبي من حيـّنا :

اذا سألت الوری عن كل مكرمة * لم يعز اكرامها الا الی الهول

فتی جواد أذاب المال نائله * فالنيل يشكر منه كثرة النيل

الموت يكره أن يلقی منتية * في كره عند لف الخيل بالخيل

لو زاحم الشمس أبقی الشمس كاسفة * أو زاحم الصم ألجاها الی الميل

أمضی من النجم ان نابته نائبه * وعند اعدائه أجری من السيل

لا يستريح من الدنيا وزينتها * ولا تراه اليها ساحب الذيل

يقصر المجد عنه في مكارمه * كما يقصر عن أفعاله قولي

فبهت الاصمعي ومن معه وقال لهم : اكتبوا ما سمعتم ولو بأطاف المدی علی رقاب الاكباد .

· من حكايات الفصحاء ونوادر البلغاء ·

حكي أن عبدالملك بن مروان جلس يوما ً وعنده رهط من ندمائه وجماعة من خواصه وأهل مسامرته ، فقال لهم :

أيكم يأتيني بحروف المعجم في بدن الانسان وله علي مل يتمناه ، فقام سويد بن غفلة ، فقال : أنا لها ، قال : هات فقال : نعم

أنف ، بطن ، ترقوة ، ثغر ، جمجمة ، حلق ، خد ، دماغ ، ذكر ، رقبة ، زند ، ساق ، شفة ، صدر ، ضلع ، طحال ، ظهر ، عين ، غبغب ، فم ، قفا ، كف ، لسان ، منخر ، نغنوغ ، هامه ، وجه ، يد .

فقام بعض أصحاب عبدالملك وقال : أنا أقولها من جسد الانسان مرتين ، فضحك عبدالملك وقال لسويد أما سمعت ما قال ؟ قال : أصلح الله الامير أنا أقولها ثلاثا ً فقال : هات ولك ما تتمناه فابتدأ يقول :

أنف ، أسنان ، أذن ؛ بطن ، بنصر ، بزه ؛ ترقوة ، تمرة ، تينة ؛ ثغر ، ثنايا ، ثدي ؛ جمجمة ، جنب ، جبهة ؛ حلق ، حنك ، حاجب ؛ خد ، خنصر ، خاصرة ؛ دبر ، دماغ ، درادير ؛ ذقن ، ذكر ، ذراع ؛ رقبة ، رأس ، ركبة ؛ زند زردمة ، زب (فهنالك ضحك عبدالملك حتی استلقی علی قفاه ) ثم قال سويد : ساق ، سرة ، سبابة ؛ شفة ، شفر ، شارب ؛ صدر ، صدغ ، صلعة ؛ ضلع ، ضفيرة ، ضرس ؛ طحال ، طرة ، طرف ؛ ظهر ، ظفر ، ظلم ؛ عين ، عنق ، عانق ؛ غبغب ، غلصمة ، غنة ؛ فم ، فك ، فؤاد ؛ قلب ، قفا ، قدم ؛ كف ، كتف ، كعب ؛ لسان ، لحية ، لوح ؛ منخر ، مرفق ، منكب ؛ نغنوغ ، ناب ، نن ؛ هامة ، هيئة ، هيف ؛ وجه ، وجنة ، ورك ؛ يمين ، يسار ، يافوخ .

ثم نهض مسرعا ً فقبل الارض بين يدي عبدالملك قال : فهندها ضحك عبد الملك وقال : والله ما تزيدنا عليها شيئا ً اعطوه ما يتمناه ، ثم أجازه وأنعم عليه وبالغ في الاحسان اليه .

· نادرة أدبية في حل الالغاز ·

يحكی عن ابن شبيب انه كان مقدما ً في حل الالغاز لا يكاد يتوقف عما يسأل عنه ، فتفاوض أبوغالب بن الحصين وأبو منصور محمد بن سليمان في أمر ابن شبيب هذا وماهو عليه من حل اللغز ، فقال أبومنصور : تعال حتی نعمل لغزا ً محالا ونسأله عنه ، فنظم أبوالمنصور :

وما شئ له في الرأس رجل * وموضع وجهه منه قفاه

اذا غمضت عينك أبصرته * وان فتـّحت عينك لا تراه

ونظم أيضا ً :

وجار هو تيار * ضعيف العقل ضوار

بلا لحم ولا ريش * وهو في الرمز طيار

بطبع بارد جدا ً * ولكن كله نار

وأنفذا اللغزين اليه ، فكتب علی الاول : طيف الخيال ، وكتب علی الثاني : هو الزئبق .

فجاءا اليه وقالا : هب اللغز الاول هو طيف الخيال ، والبيت الثاني يساعدك عليه ، فكيف تعمل في البيت الاول ، فقال : لان المنام يفسر بالعكس ، لان من بكی يفسر له بالضحك ، ومن مات يفسر له بطول الحياة ، وقوله في الثاني هو طيار ان أرباب صنعة الكيمياء يرمزون للزئبق بالطيار والفرار والابق وما أشبه ذلك لانه يناسب صفته ، وأما برده فظاهر ، ولافراط برده ثقل جسمه وجرمه ، وكله نار لسرعة حركته وتشكله في افتراقه والتئآمه ، فأعجبا من فرط ذكائه ، وتوقد عقله .

· لمحات من الكلمات الحكميةللعرب ·

من كلامهم :

· ثوب الرجل لسان نعمه الله عليه .

· صديق الوالد عم الولد .

· علامة الكـذ ّاب جوده باليمين لغير مستحلف .

· ظن العاقل خير من صواب الجاهل .

· كلب جوال خير من أسد رابط .

· من سعادة المرء أن يكون خصمه عاقلا ً .

· موت الخـيّر راحة لنفسه ، وموت الشرّير راحة لغيره .

· فوت الحاجة خير من طلبها من غير أهله .

· ظلم الضعيف أفحش الظلم .

· من صلاح نفسك معرفتك بفسادها .

· غضب الجاهل في قوله ، وغضب العاقل في فعله .

· قارب الناس في عقولهم ، تسلم من غوائلهم .

· لا تفتح بابا يعييك سده .

· لا ترسل سهما يعجزك رده .

· لا تشح من اعطاء القليل ، فان المنع أقل منه .

· لا تكن ممن يلعن ابليس في العلانية ويواليه في السر .

· لا تكن رطبا ً فتعصر ، ولا يابسا ً فتكسر .

· لا يزيدك لطف الحسود الا وحشة منه .

· اذا اشتبه عليم أمران فاجتنب أقربهم من هواك .

· فائدة لغوية يحتاج كل اديب اليها ·

البلج : هو أن ينقطع الحاجبان فلا يكون بينهما تضام للشعر ، وكانت العرب تمدح بالبلج ويقال : رجل أبلج ، وإمرأة بلجاء .

العين : فجملة العين المقلة ، وهي الشحمة التي تجمع البياض والحدقة والناظر ، وهو موضع البصر .

وفيهما الناظران وهما عرقان علی حرف الانف يسيلان من الموقين الی الوجه .

وفيهما الاجفان وهي غطاء المقلة من أعلی وأسفل .

وفيهما الاشفار وهي حروف الاجفان التي تلتقي عند الغمض الواحد شفر والشفر الذي ينبت فيه الهدب الواحد هدب فاذا طالت الاهداب قيل رجل أهدب وامرأة هدباء ، ورجل أوطف وامرأة وطفاء ، وكذلك اذن هدباء اذا كانت كثيرة الشعر ووطفاء والكل دليل علی الطول .

والمحجر ما خرج من النقاب من الرجل والمرأة من الجفن الاسفل .

وفي العين الحماليق والواحد حملاق والحماليق النواحي .

وفيهما اللحاظ وهي مؤخرها الذي يلي الصدغ والموق طرفها الذي يلي الانف وهو مخرج الدمع .

وفي العين الحوص وهو ضيق في مؤخرها يقال رجل أحوص وامرأة حوصاء .

وفيها النجل وهو سعة العين وعظم المقلة وكثرة البياض . يقال امرأة نجلاء .

وفيها الخنس وهو ضعف في النظر .

وفيها الكحل وهو سواد العين بين الحمرة والسواد

والدعج السواد في العين بين الحمرة والسواد .

والشهل أن يشوب سوادها زرقة يقال رجل أشهل وامرأة شهلاء .

ويقال نظر الي شزرا ً وذلك اذا نظر عن يمينه أو عن شماله ولم يستقبله بنظره في النظر .

الاغضاء وهو أن يطبق جفنه علی حدقته فيقال رأيته مغضبا ً .

الفم : وفي الفم الثنايا والرباعيات والضواحك والارحاء والنواجذ ، فالضواحك أربعة أضراس تلي الانياب الی جنب كل ناب من أسفل الفم وأعلاه ضاحك ، وأما الارحاء ثمانية أضراس من أسفل الفم وأعلاه ، وفي الاسنان الظلم ساكن وهو ماء الاسنان ، وفي الاسنان الشنب وهو الی برد وعذوبة في المذاق ، والفلج تباعد ما بين الاسنان .

اللثة : وهو اللحم ينبت فيه الاسنان وفي اللثة اللمی وهو سمرة تضرب الی السواد ، وكذلك بالجوه واللهاة اللحمة الحمراء المعلقة علی الحنك .



[1] السموط : القلادة

[2] النشق : اشم ، او الدواء الذي يستعمل كصعوط في الانف .

[3] خبث الاطناب : المفردات الغير مرغوبة من الكلام البليغ .

[4] الفِطِّيس، مثال الفِسِّيق: المِطْرَقَة العظيمة

[5] النجَّاد الذي يعالج الفرش و الوِسادَ و يَخِيطُها.

[6] الزَّرابيُّ: البُسُطُ؛ و قيل: كلُّ ما بُسِطَ و اتُّكِئَ عليه‏

[7] مارق : نتف الصوف

[8] الماتح : السقـّاء .

[9] القَلِيبُ: البئر

[10] متحت : سقيت من البئر

[11] الجُرُبَّانُ، بالضم، هو جَيْبُ القميص، و الأَلف و النون زائدتان‏

[12] وَجُزَ الكلامُ وَجازَةً و وَجْزاً و أَوْجَزَ: قَلَّ في بلاغة

[13] الدِّخْرِيصُ من القميص و الدِّرْع: واحدُ الدَّخارِيصِ، و هو ما يُوصَل به البدَنُ ليُوَسِّعَه‏

[14] الرائض : منسوب الی رياضة الخيل ، الشخص الذي يروّض الخيل .

[15] الخِطامُ: الزِّمام‏ ، و الخِطامُ كلُّ ما وُضِع في أَنف البعير ليُقاد به‏

[16] ثِنْيُ الثوب لما كُفَّ من أَطرافه‏

[17] الراووق ناجُود الشَّراب الذي يُرَوَّق به فيُصَفَّى

[18] الفُقَّاعُ: شَراب يتخذ من الشعير سمي به لما يعلوه من الزَّبَدِ. والفقاعي بائع الفقاع .

[19] الرَّمَصُ في العين: كالغَمَصِ و هو قَذًى تَلْفِظ به‏